II -الــــوعـي واللاوعـي:
لمعرفة الحياة النفسية والعلاقة التي تحكم الوعي بالذات و العالم الخارجي , سيكون هذا الدرس عبارة عن تحديد و معرفة أصل الحياة النفسية و الكشف عن تدخل الوعي أو اللاوعي في تحديد وجود الذات. ثم الخلاصة إلى طبيعة انتاجات كل واحد منها.لهذا ننطلق من فرضية اللاشعور أو لنقل التحليل النفسي كنظرية عند فرويد, باعتبار اللاشعور يشكل مفهوما مركزيا يبنى عليه التحليل النفسي .إلا أنه يجب الإشارة إلى أن أعمال فرويد تشكل إلى جانب أعمال كل من ماركس و نيتشه تدشينا لمرحلة الشك في الوعي الإنساني. إن تراجع فرويد عن إعطاء الأهمية في التحليل للوعي أي الشعور, يفترض في المقابل وجود مفهوم اللاشعور كأساس و أصل للحياة.ليتخلى بعد ذلك عن هذين المفهومين لصالح مفهوم آخر هو مفهوم الجهاز النفسي المكون من ثلاث مناطق وهي: الـــــهـو, الأنـــا, الأنـــا الأعـلــــى. ونجد عبد الله العروي في مؤلفه ( العرب و الفكر التاريخي) يصنف ضمن الاتجاهات التي نقدت مفهوم الوعي و عقلية القرن 19 و بقول إن نظرية فرويد بدأت كمحاولة علمية عقلانية لإدخال اللاوعي في نطاق الوعي, و أن هذا الأخير يعلن لنا عن حقائق سابقة لنشأة الإنسان و المجتمع و اللغة , و أن منطق الميول و الرغبة هو منطق كوني أوسع بكثير من منطق العقل الإنساني المحدود. و نتساءل الآن ما هي مكونات الوجود النفسي عند فرويد؟ و كيف تتحدد الحياة النفسية لديه بناء على فرضية اللاشعور؟ و ما موقف فلسفات الوعي من هذا التصور؟
إذا كان ديكارت (1596-1650) قد مارس تأثيرا كبيرا على الفكر الغربي, وذلك من خلال جعل الحياة النفسية تطابق الشعور أو الوعي مطابقة تامة, مهملا بذلك الجانب اللاشعوري, و بالرغم من أن ليبنتز(1646-1716) قد انتبه إلى الحوادث اللاشعورية, فإننا نجد فرويد يدافع عن الطابع العلمي لاكتشافاته و يؤكد على فرضية وجود الجهاز النفسي "إنه ممتد في المكان , و مركب تركيبا مناسبا , و يتصور وفقا لمقتضيات الحياة و لا تبدو فيه ظواهر الشعور إلا عند نقط خاصة, و ظروف معينة."(الموجز في التحليل النفسي) .
يـــــــرى فرويد أن ما يمر بنا من خبرات حسية و ذهنية و انفعالية يسجله العقل بصورة ما و تكون ذاكرتنا أو حافظتنا بمثابة الأرشيف الذي نضع فيه تلك السجلات, فمن السجلات ما يكون ماثلا أمامنا في الشعور , ومنها ما نستطيع أن نبحث عنه فنستخرجه من بعض الخزائن ( في ما قبل الشعور)وطبقا لفرويد تتألف الشخصية الانسانية من انظمة رئيسة متعددة كالشعور وقبل الشعور واللاشعور وفي هذه الانظمة تركيبات ضمنية اخرى تقوم عليها الدينامية المشتركة للعمل . وبكلمة مبسطة يستعمل "الشعور" بمعنى مطابق للمعنى المستعمل في الحياة اليومية ، فهو يشمل كل الاحساسات والتجارب والفعاليات التي نكون واعين بها في أي لحظة . ويرى فرويد أن نظام الشعور يمثل فقط سطح الحياة العقلية ، وهو جزء بسيط إذا ما قورن باللاشعور . وهذا النظام يسير وفق المنطق والمألوف وما هو متعارف عليه ، وهو امر مقته السرياليون وتمردوا عليه.
وتشير مفهومة "قبل الشعور" إلى نظام يقع بين الشعور واللاشعور ، وتقع تحت طائلته نوعين من الافكار الاولى : سهلة التفطن مثل الذكريات التي لا ترتبط بالأم نفسه ، وهذه المحتويات تخضع لنظام "رقابة لينة" تحيل دون اختلاطها بعالم الشعور . النوع الثاني : افكار عسرة التفطن – لها علاقة ما باللاشعور - ، وربما تحمل شيئا من التجارب المؤلمة وهذه تخضع "لرقابة اكثر شدة" . وهي بكل احوالها محتويات لم تصل إلى مستوى "الكبت" في اللاشعور ، وتستدعى الافكار والذكريات من نظام قبل الشعور لكي تعين الشخص على التكيف في موقف يواجهه النظام الاخر والذي يمثل الامتداد الاوسع والاكثر عمقا واهمية عند فرويد والسرياليين هو نظام "اللاشعور" ، وهو تركيبة من المواد النفسية المختلفة التي لا تكون تحت تصرف الشعور مباشرة ، والتي يتألف قسم منها من حوادث "كبتت" الانفعالات المصاحبة لها من فترات طويلة ، وهي بجملتها خليط من الاحاسيس والتجارب المؤلمة والافكار والدوافع والرغبات المتطرفة المخالفة للجماعة ، والمستبعدة لاشعوريا من نظام الشعور إلى نظام اللاشعور . وطبقا لفرويد تبقى تلك المحتويات اللاشعورية حية لا تموت ، بل تظل نشطة تعمل على الوصول إلى نظام الشعور ، الا أن قوى الرقابة المشددة في الشخصية تحيل دون ذلك ، فتضطر هذه المواد المكبوتة أن تلتمس التعبير عن نفسها بطرق غير مباشرة "دون علم الرقيب" من خلال الحركات والافعال القسرية أو الاحلام والتخيلات وفلتات اللسان ، وزلات القلم، وما إلى ذلك . لذا يكون اللاشعور مؤثرا تاثيرا كبيرا في سلوك الفرد ومزاجه ويكون باستطاعته أن يغير افكار الفرد وعواطفه تغيرا واسعا دون أن يكون الفرد على علم بذلك ، (. د احتلت مفاهيم الشعور وقبل الشعور واللاشعور التي طرحها فرويد في كتابه "تفسير الاحلام" 1900 مكان الصدارة في نظريته حتى عام 1920 عندما قدم طروحات اعمق تفسيرا واكثر تعقيدا ومداخلة وهي "الهو ID والانا Ego والانا الاعلى super Ego " . طبقا لفرويد يمثل الـ "هو" القسم الاقدم الذي يحتوي على كل ما هو موروث من ميلاد الفرد حتى لحظة حاضره ، وهو مخزن الطاقة النفسية ، وتجري اغلب عملياته على مستوى اللاشعور ، ويعمل الهو على خفض التوتر وفق مبدا "اللذة" .
ويشير "الانا" إلى تنظيم معقد للعمليات النفسية ، يؤدي عمله وسيطا بين الهو بكامل اندفاعاته الغريزية والانا الاعلى بكل متطلباته الاجتماعية المثالية ويوفر انجاز الانا لوظائفه الاتزان للفرد ، والشيء المهم في عالم الانا أن التحكم هنا يخضع لمبدا "الواقع" أي ما هو موجود ، وممكن بالفعل وهدف هذا المبدا تصريف الطاقة لحين اكتشاف الموضوع الذي يرضي الحاجة ، فهو يعلق مبدأ اللذة مؤقتا ، من اجل مبدا الواقع .
اما "الانا الاعلى" فهو الممثل الداخلي للقيم التقليدية للمجتمع المحددة لكل ماهو واجب وينبغي أن يكون ، وبصيغة مثالية "الانا المثالي" ، وكل ما لا يجب ولا ينبغي أن يحدث وبصورة متطرفة "الضمير" وبذلك تمثل محتوياته كل ما هو مثالي وليس واقعي . فهو يشبه الهو من حيث أنه غير منطقي ، ويشبه الأنا في محاولته التحكم بالغرائز إلا أنه هنا يذهب ابعد من هذا في أنه لا يحاول فقط إرجاء الإشباع الغريزي بل الحيلولة دونه، وهكذا تؤكد نظرية فرويد أن الإنسان تركيب دائم الصراع بين أنظمته الشخصية وان القسم الأعظم من الحياة مغمور مبهم, لا منطقي غير محدد خاماته كتلة من الاحباطات والعقد والتجارب المكبوتة ، والغرائز المندفعة والمثل الاخلاقية المتطرفة المتراكمة على مر البعد الزماني الماضي للفرد .
إن تأكيد فرويد على ذلك العالم الغامض فينا ، وما ينطوي عليه من حقائق تمثل الشكل الاوضح لصورة الإنسان الحقيقي لغرابة أعماق عوالم اللاشعور وطاقاته المتأججة وراء هدف محاولة "إدراك" بعض الأبعاد والخواص في كينونتهم المغمورة وإنارة ما يمكن إنارته من الأماكن الخفية والتجوال في عالم غريزتي الموت "ثاناتوس" والحياة "ايروس" لإظهار معالم الإنسان الحقيقة وتسجليها في الفكر والأدب والفن على نحو حر والعالم الآخر الذي ولع السرياليون به واعتبروه منهلا مثمرا لمادتهم الأدبية هو الأحلام ، وذلك أمر آخر كان من أولويات اهتمام فرويد ، وصف فرويد الحلم باعتباره احد أهم الحيل التي تلجا إليها النفس البشرية لإشباع رغباتها ودوافعها وبخاصة تلك التي يكون اشباعها صعبا أو مستحيلا في عالم الواقع . يوضح فرويد في واحد من كتبه المهمة "تفسير الاحلام" أن الحلم تحقيق رغبة ، وأنه ليس أمرا من أمور الصدفة ، فهو مرتبط بالأفكار التي سبق أن كبتت في اللاشعور والتي تحاول جاهدة التعبير عن نفسها ، وان حدث وتمكنت من ذلك فإنها تضطر إلى الارتداد إلى مستوى الإدراك الحسي ، فتتحول تلك الافكار إلى مجموعة صور حية ومناظر بصرية في حالة الحلم . وبذلك يتحقق للنزعة المكبوتة اشباع وهمي ، ولما كان منبع الاحلام هو اللاشعور ، وحيث أن محتويات هذا العالم اللاشعوري -كما أوضح فرويد- جملة من التجارب المكبوتة في عالم سمته اللامنطق لذا تعبر تلك التفاعلات النفسية عن وجودها بشكل مموه يبدو أحيانا أمرا غرائبي وخلوا من المعنى بالنسبة لغير المتخصص.
ويؤكد فرويد على وجود عمليتين أساسيتين في عالم الحلم هما "التكثيف والنقل" ففي مقدورنا -والكلام لفرويد- أن نفسر عن طريق عمل التكثيف بعض الصور الخاصة بالحلم والتي نجهلها في حالة اليقظة جهلا تاما ، هذه الصور تتمثل في الوجوه البشرية المتعددة الشخصيات أو المزيجة ، أو تلك التصاميم الغريبة المتنافرة العناصر والتي تقدم في وحدة موضوعية من الحلم ، ولا نستطيع كشف هويتها أو إماطة اللثام عنها في أحيان كثيرة إلا بواسطة ذلك التركيب الرمزي المتنافر والمجتمع في صورة واحدة . أن شطرا كبيرا من اكتشافاتنا ، والكلام لايزال لفرويد ، بصدد عمل التكثيف في الحلم يمكن تلخيصه على النحو الآتي "إن مادة الحلم الكامنة هي التي تحدد المضمون الظاهر حتى في ادق تفاصيله تقريبا ، وكل تفصيل من هذه التفاصيل لا يشتق من فكرة منعزلة وإنما من عدة افكار مقتبسة من تلك المادة الأساسية وغير مترابطة فيما بينها بالضرورة بل من الممكن أن تكون منتمية إلى اشد ميادين الأفكار الكامنة اختلافا . أن كل تفصيل من تفاصيل الحلم هو بكل معنى الكلمة تمثيل في مضمون الحلم لزمرة من زمر الأفكار المتنافرة تلك" ،أن التنافر بين مضمون الحلم الظاهر ومضمونه الكامن لا يمكن أن يعزى إلى ضرورة التكثيف وما يرتبط به من تحويل الفكرة إلى موقف (الاخراج الدرامي) بل ثمة مؤشرات معينة تشهد على وجود عامل آخر وهو النقل ، "فأثناء قيام الحلم بعمله تنتقل الشدة النفسية للأفكار والتصورات التي هي موضوع عمل الحلم لتتلبس أفكارا وتصورات أخرى هي بالضبط تلك التي ما كنا نتوقع البتة أن نراها تأخذ تلك الحدة والكثافة الانفعالية" ,ويعتبر الكبت أساس الحيل الدفاعية جميعا, فكلنا نلجأ إليه بمقدار و عن وعى و إرادة, و لكن إذا أسرف الفرد في الالتجاء إلية كحل لمشكلاته و رغباته أنتقل به إلى حالة المرض و من ثم الوقوع في سلوكيات غير طبيعية. قالكبت المتصل يمنع الفرد من مواجعة مشاكلة مواجهة موضوعية و بالتالى عدم حلها
و فى كثير من الحالات تحاول الدوافع و الحاجات المكبوتة التعبير عن نفسها بطرق ملتوية لا شعوربة قد توقع الأنسان في الخطا أو الجريمة أو الأمراض النفسية, كما قد يظهر الشيء المكبوت فجأه فيحطم سدود الكبد كالنهر الجارف و يصبح القشة التى قضمت ظهر البعير, فقد يرتكب الأنسان جريمة لأسباب تافهة بسيطة:
·